26‏/1‏/2010

ايزابيل ابرهارت و رحلة الحب و الجنون

"في كثير من المرات و على طرق حياتي الشريدة كنت أسائل نفسي : الى أين أذهب ؟ و توصلت الى أن أفهم أنني بين أبناء الشعب و عند البدو أتجه الى ينابيع الحياة ..أنني أقوم بسفر في أعماق الانسانية"- ايزابيل ابرهارت-
أن تكون امرأة هي بداية العذاب...
أن تكون امرأة و أديبة هو عمق العذاب ...
أن تكون امراة و أديبة و مهووسة بالحرية هو العذاب كله و الألم لبّه...
كانت ايزابيل ابرهارت هذا كله...
كانت امرأة لم تكن تريد أن تكونها فارتدت ثياب الرجال لتخفي معالمها ، مفاتنها ، أنوثتها و تكتم صرخة الجمال فيها...
و كانت أديبة أو مشروع أديبة لم يكتمل تمام الاكتمال لأن الموت كان قاطع الطريق الذي لم يكن في الحسبان فاقتلع النبتة قبل ازهارها...
و كانت عاشقة للحرية ، تواقة الى الانطلاق نحو الآفاق البعيدة و الأمصار النائية فقفز مسار حياتها على الجغرافيا و حدودها و التضاريس و تعقيداتها و جعلها تسافر بعيدا و تنأى عن بلدها طويلا و تتأرجح بين الثرى و الثريا فتعرف متعة الروح في ذروة ارتفاعها و عذابها في سقوطها، و حيرتها في صراعها الجهنمي لتتحرر من جاذبية الأشياء في فوضاها و دونيتها.
من روسيا ..و روسيا في نهاية القرن التاسع عشر برد و دم و دموع ، الى صحراء الجزائر و هي آنذاك حرارة و سحر و ثورة ...من النقيض الى النقيض سار خط الحياة عبر طريق صعب تتخلله العقبات ، الانحناءات و السقطات.
و لكن كانت الارادة لا تقهر و كان في العمق حب لا يقاوم لحرية لابد منها و عشق فطري للمغامرة و الترحال.
و من تناسل كل هذا ولدت صبية على مهدها حط عصفور من الشرق و خلف نافذتها تبسمت نجمة من ذاك الجنوب الساحر البعيد.
و جاءتنا امراة من قلب أروبا تسعى ..قالت:"يا قوم ، بساطتكم تستهويني ، دفؤكم يملؤني ، دينكم ملاذ جنوني ، صحراؤكم مرتع أحلامي، فاقبلوا انتمائي اليكم و حبي لأرضكم و هوسي بشرقكم..اقبلوني..."
جاءتنا اذن امراة من أروبا في جسد فتاة لا تتعدى العشرين من عمرها ، في هندام رجل و الرجل هندام في مجتمع نصفه رجال و نصفه ضحايا رجال ، في لباس فارس عربي و العرب من المحيط الى الخليج "اما نعجة مذبوحة أو حاكم قصاب"...جاءتنا ايزابيل ابرهارت أو محمود سعدي كما كانت تمضي بذلك قصصها و تحقيقاتها في الصحافة الجزائرية في بداية القرن العشرين فكانت بيننا رسول حب و سلام.
ولدت في سويسرا سنة 1877 من أم روسية مسيحية و أب؟؟؟-احتار الناس في نسبها- قالت عنه هي أنه تركي مسلم و قال بعض من كتبوا عنها أنه ذلك الكاهن الارمني ، الارثذوكسي الذي ترك الكنيسة و قد أتى به الجنرال زوج أمها ليعلم له أبناءه الخمسة ففر بالزوجة من معتقل الاستبداد القيصري الى سويسرا و هي البلد الهادئ المسالم الذي يتقاطع فيه الحب و السلم.
الجنرال "بول كارلويتش دي موردر" مات قبل ثلاث سنوات من ميلاد ايزابيل فهو ليس والدها ، و المعلم الارمني الحر أعطاها من فكره و قلبه و لكنه لم يمنحها اسمه هو المقيد في سجلات الحالة المدنية تحت اسم "ألكسندر تروفيموسكي" .و ذهب أحد كتاب سيرتها و هم كثر "بيار آرنو" و هو المهووس ب"أرثر رامبو" و جعل الشاعر المنبوذ أبا لها لعلاقة روحية أو ربما وراثية تربطهما: كلاهما كانا متمردين ، مسحورين بالانطلاق نحو الآفاق البعيدة و المغامرات الغريبة.
و ليس مهما أن نعرف نسبها -نحن المولعون بالبحث في الأنساب- فربما جهلته هي نفسها فجعلت لها الأب الذي تريده لكل فترة من حياتها و طارئ من طوارئ أيامها .و ما منعها ذلك من أن تكون امراة فوق العادة ، مهمتها أن تحب فوق العادة شيئين اثنين: الشرق و الحرية.
و الشرق عند ايزابيل فوق ما أتى به المستشرقون .الشرق ليس بوابة افريقيا و افريقيا أسد هصور يغفو لفترة و ينتفض لفترات..الشرق عند ايزابيل عمق الانسانية في بساطتها و حرارتها و سجيتها..الشرق ليس عالما مجهولا ، سحريا ، اكزوتيكيا ..انه أرض تفور منها روائح الثورة و الحب و الجمال و شعب رغم الأصفاد حر الحواس ، حر المشاعر ، حر العقيدة..الشرق اسلام اعتنقته و أحبته حد التصوف أحيانا ، و اله رأته على أرضه البكر و في أعماقها حين تصفو الاعماق و ترتاح في كنف القوي العزيز و قد تحررت من كل العلائق التي ترهق و من كل شيء.
في سن العشرين تكسر الفتاة كتل الجليد الذي أحاط بها في أروبا و تنطلق بها أهواءها ، شيء في طبيعتها و أشياء في نفسها الى أجواء ترى فيها الوجه الآخر للحياة ، للأرض ، للانسان ، و تتلمس ذلك البعد الذي ان تحركت وفقه خفض الكوكب من سرعته احتراما لآهليه و حبا في ساكنيه، مثلها مثل الكثير من الأروبيين الذين خنقتهم بورجوازية القرن التاسع عشر فانطلقوا باحثين عن أراض عذراء يمتلئ فوقها ذلك الخواء الروحي الذي جوّف خلاياهم كلها و يجدون فيها شيئا جديدا ساحرا و جذابا.
في سن العشرين اذن تتبع الفتاة والدتها الى عنابة بالجزائر .و هناك تعتنق الوالدة الاسلام و تموت بعد ذلك بقليل فتعود الصبية الى جنيف لتقوم بواجبها اتجاه ذاك الذي رباها .و لكنه يموت هو الآخر بعد زمن قصير فتعود الى افريقيا و تعبر على صهوة حصان تونس و الشرق الجزائري حتى الجنوب و هي في لباس فارس عربي و قد تمكنت من لغة البلد فأتقنت التعامل بها .
و في الجزائر و بالضبط في صحرائها تجد ايزابيل نفسها ، حنينها ، قلمها و حتى دينها حيث تنضم في مدينة"الوادي" الى الجمعية الدينية "اخوان القادرية" و تزور الزوايا و تجد في التصوف راحة داخلية سرعان ما يحطمها القلق الفطري الذي يركب الفتاة .ذلك أن هذه الحسناء ، القوية ، الساحرة، كانت تتميز بطبيعة متقلبة و أهواء متناقضة تجعلها تتألم و لا تستقر على حال كما قالت هي عن نفسها.فتمضي حياتها متأرجحة بين النقيضين : بين بيوت العبادة و بيوت اللهو و المجون .و في صعودها و هبوطها كانت روحها تواجه قدرا سيزيفيا قاسيا.
غير أن أبرز و أسعد فترة في حياتها هي تلك التي قضتها في مدينة "عين الصفراء" أين التقت بالجنرال "ليوتاي" المكلف من طرف الادارة الفرنسية باعادة الامن الى الحدود الجزائرية المغربية فتنشأ بينهما صداقة عميقة مكنتها من القيام بتحقيقاتها الصحفية بكل حرية ، فجابت الصحراء مع قوافل البدو تقاسمهم حياتهم الصعبة على الرمال الساخنة و المرتفعات القاحلة فزارت القصور و القرى الصحراوية و الزوايا و الاماكن المقدسة و ذابت في المجتمع البدوي كل الذوبان .فاذا استحوذ عليها حب المغامرة انطلقت باحثة عن جماعات المتمردين لوحدها هي التي انضمت الى أحد معسكرات الجنود الفرنسيين و عاشت معهم و خضعت مثلهم لصرامة النظام العسكري.
جربت كل شيء اذن و قبلت من الرجال كل شيء أيضا الا أن تعامل كأنثى.

هل هو الجنون؟

هل هو التحدي؟ تحدي الانوثة أم تحدي الانثى التي تعرقلها الانوثة عن اتيان المعجزات و لكنها تأتيها رغم ذلك؟أم هو تحد للرجال في عقر قوتهم؟
أم هو بكل بساطة البحث عن معنى للحياة ، عن عمقها ، عن عصارتها ؟
ربما هو كل هذا ..و ربما لاشيء من هذا فقد اشتط الناس في الحديث عن عاشقة البادية التي لفها السحر و الغموض.
لم تقم ايزابيل ابرهارت بأي دور سياسي ، بل كانت دارسة لحياة أهالي البلد الذين استضافوها و أحبوها فاتخذت منهم أصدقاء لها و رفضت أن تلعب معهم دور الاستشراق الذي كان موضة ذلك العصر فتنظر اليهم بعين الدهشة و الغرابة و الفوقية ، فأثارت بذلك حفيظة المستوطنين الذين لم يحبوها و لا استساغوا مقالاتها و قصصها و أفكارها بل قاوموها و هاجموها و ربما هم الذين خططوا لمحاولة اغتيالها الفاشلة.
و لكن يشاء الموت أن يأتيها بغتة و هي في عمق الجنوب ..يأتيها ذات صباح خريفي من يوم 21 اكتوبر 1904 و هي في سن السابعة و العشرين اثر فيضان أحد الأودية بعد هطول امطار غزيرة أدت الى ردم قرية كاملة بعين الصفراء كانت الشابة تقطن فيها.و لم يعثر على جثتها الا بعد ثلاثة أيام غارقة في الأوحال تحت أنقاض بيتها.
و قد كتب عنها صديقها الجنرال "ليوتاي" كلمات تأبينية جميلة فقال:" كنا متفاهمين كثيرا محمود(ايزابيل) و أنا و سأظل محتفظا بالذكرى الرائعة لحكايانا المسائية .كانت أكثر ما يجذبني في هذا العالم: متمردة.أن تجد شخصا يمثل نفسه صادقا خارج المتعارف عليه و خارج القوالب المصنوعة و الكليشيهات الجاهزة ، يمضي في الحياة حرا كأنه طائر في الفضاء انه لشيء رائع .لقد أحببتها لما كانته و لما لم تكنه".
لم تترك ايزابيل وراءها غير بضعة مقالات منشورة في الصحف و بعض القصص (ياسمينة ، الخطيبة ، تاسعديت ، الساحر،...) و محاولة روائية (راخيل) و لكن حياتها العجيبة هي أكبر رواية تتركها.
و قد نشرت أعمالها بعد موتها .كما نشر الكثير عن حياتها .و لازالت الى يومنا هذا تثير الدهشة و الاستغراب و تسيل الكثير من الحبر.
و كانت كثيرا ما تسأل نفسها:لماذا أكتب؟
هوذا سؤال أي أديب...
الحب و الكتابة : حياة الأديب ..عالم الأديب ..رسالة الاديب، فان ربط بينهما بذلك الخيط الحريري الرفيع الذي يسمونه الصدق ، الصدق مع النفس و الصدق مع الناس و الصدق مع القلم كاد الاديب أن يكون قديسا.
فكانت ايزابيل تكتب بحب و كانت صاقة فيما كانت تكتبه الى أبعد الحدود كما كانت صادقة مع الناس الذين عاشرتهم و كتبت عنهم.كانت تريد أن تكون هي نفسها في كتاباتها كما في واقعها : مترفعة عن القوالب الاجتماعية و الأدبية السائدة في وقتها .و كانت تملك موهبة فذة تنبئ بمستقبل أدبي زاهر لولا أن الصمت جاء مبكرا.
"هذه هي حياتي ..حياة روح مغامرة ، متحررة من استبداد آلاف الأشياء الصغيرة التي نسميها "المكتسبات" و "العادات" و "الاعراف " و متشوقة الى حياة تحت الشمس ..حياة متغيرة و حرة "
أما أنا فأكتب عنها على بعد أكثر من قرن منها و على بعد مئات الاميال من ضريحها الذي أصبح مزارا و محجا للسواح و المهتمين بسيرتها في أصقاع العالم عرفانا لمحبتها لهذا الوطن و للشعب البسيط الذي يعمر جنبات هذا الوطن.و كانت تجيب في مذكراتها:"أكتب لانني أحب عملية الابداع الأدبي .أكتب كما أحب .و لأن ذاك على الأرجح هو قدري ..ذاك هو سلوتي الحقيقية".

وهيبة جموعي

الرحلة الصوفية لإيزابيل ابرهات


الرحلة الصوفية لإيزابيل ابرهات
الأديبة ايزابيل ابرهارت كاتبة سويسرية من أصل روسي حملت الجنسية الفرنسية من خلال زواجها وهي من مواليد عام 1877 في مدينة جنيف وتوفيت عام 1904 في الجزائر.
أخذت إيزابيل منذ سنوات شبابها الأولى مسافة عن الأوروبيين وعن الحضارة الأوروبية وقررت العيش كـ «مسلمة» بل وتنكّرت بزيّ رجل بدوي. بعد وفاة والدتها، عاشت لمدة أشهر عديدة متنقّلة من مكان إلى آخر ثم قابلت رجلا مسلما اسمه سليمان وكان يحمل الجنسية الفرنسية. لقد تزوجته واكتسبت بذلك جنسيته مع أن السلطات الفرنسية كانت تشك أنه «جاسوس ».طردوها من الجزائر عبر نزاع بين مجموعات صوفية لكنها عادت إليها بصفتها «فرنسية الجنسية» وعملت لفترة من الزمن كصحفية في جريدة «الأخبار». وعندما كانت في محلّة «وادي صفرا» الجزائرية الواقعة بالقرب من الحدود المغربية لـ «تغطية» أحداث كانت تجري هناك فاض النهر القريب واجتاح المدينة.
لقد عثروا على الزوج حيا ولكن إيزابيل توفيت إذ لم تستطع الهرب بسبب إصابتها آنذاك بمرض الملاريا. نشرت إيزابيل العديد من الأعمال من بينها «جنوب مدينة وهران» و«صفحات من الإسلام» و«في الظل الدافئ للإسلام»و«في بلاد الرمال». أعمالها الكاملة جرى نشرها في نهاية عقد الثمانينات الماضي. تجدر الإشارة إلى أن سيرة حياتها كانت موضوعا لحوالي عشرة كتب.
الكتاب الجديد في عمقه محاولة للإجابة على السؤال التالي: »ما الذي دفع فتاة أرستقراطية من جنيف كي تدير ظهرها للحضارة الغربية كي تلج دروب مغامرة لا تعود منها في قلب التصوّف الإسلامي«؟
المؤلفان، وبالاعتماد على ما كتبته إيزابيل ابرهارت نفسها والذي يزيد على 2000 صفحة يحاولان الإجابة على هذا السؤال عبر اقتفاء آثار مسيرتها «الروحانية» مرحلة بعد مرحلة. ومن خلال عملية التقصّي هذه يلقيان الأضواء على النقاط الأساسية التي تشكّل «الانسجام الداخلي» لتلك المسيرة كلها، والمصادر «قوة» صاحبتها. بدأت ايزابيل ابرهارت رحلتها «الصوفية» انطلاقا من «تجربتها الداخلية» في إحدى المناطق الجزائرية. لقد بدأت تلك التجربة كـ «طالبة للمعرفة» أو كـ «ساعية للبحث عن المعنى».
ومن خلال مثل تلك التجربة وجدت نفسها منخرطة في محاولة التعرّف على الإسلام حسبما عاشه معتنقوه في بداياته ودفعها ذلك إلى حالة من التأمل. وينقل عنها المؤلفان بهذا الخصوص قولها في وصفها لتلك الحالة: «أن يكون المرء سليم الجسد وصافيا من كل دنس بعد الاستحمام بالماء العذب البارد، وأن يكون بسيطا ومؤمنا لا يرقى إليه الشك ولا يحتاج للنضال ضد نزواته وأن ينتظر دون خشية وبصبر لا ينفد ساعة الخلود الأكيدة».

ويؤكد المؤلفان أن ايزابيل ابرهارت لم تكتف فقط باتخاذ مواقف مؤيدة للمسلمين الذين أقامت بينهم في جنوب الجزائر ضد السلطات الاستعمارية ولكنها «التحقت بهم أيضاً في التزامهم الروحاني». لقد وقفت باختصار «قلبا وقالبا» مع أولئك الذين رفضهم المجتمع الاستعماري و«تبعتهم» في كل ما يقرّبها منهم.
وفي مدينة «الواد»، «وادي سوف» بجنوب الجزائر التقت ايزابيل بالرجل المسلم الذي أمضت بقية حياتها معه عندما كان جنديا في الجيش الفرنسي بشمال إفريقيا. لقد تزوجت منه بعد قراءة «الفاتحة» حسب الطقوس الإسلامية. كان زواج أوروبية بأحد أبناء البلد الأصليين بمثابة «فضيحة» آنذاك. لذلك لم توافق السلطات العسكرية الفرنسية على زواجهما «مدنيا».
بل وصدرت التوجيهات لإيزابيل ابرهارت كي تغادر الجزائر على أساس أن طريقتها في العيش وترددها على الإخوانيات الصوفية، يثيران الحذر والتشوش. لقد جرى نفيها إلى مدينة مرسيليا لمدة عام، لكنها استطاعت أن تتزوج سليمان «مدنيا» في عام 1901، وعاد «الزوجان» إلى الجزائر عام 1902. كانت ايزابيل ابرهارت قد أخذت اسم «محمد سعدي» ثم استعادت اسمها الحقيقي بعد الزواج كي تعيش كإحدى نساء الجنوب الجزائري المسلمات.
وكانت قد حرصت على أن تبقى وفية له باستمرار على قاعدة المبادئ التي تؤمن بها. لقد عاشت له ولتجربتها الروحانية. وتدل الكتابات المنقولة عنها أنها عاشت تلك التجربة كنوع من التفجر بداخلها . وهذا ما عبرت عنه هي نفسها بالقول: أحسست بسمو لا اسم له يحمل روحي نحو مناطق مجهولة من النشوة. لقد بدأت ايزابيل ابرهارت تجربتها الروحانية بنوع من «الإحساس الغامض» ثم استمرت في الذهاب بعيدا بحثا عنه وصولا إلى «حالة تصوف عميقة».
ويؤكد المؤلفان في هذا السياق اعتمادا على عدة مؤشرات وكتابات للمعنية أنها «تتلمذت» أيضاً على يد عدد من المتصوفين المسلمين الكبار الذين «أرشدوها على الطريق». كذلك يتم التأكيد على أنها اكتسبت مستوى عاليا من «المعرفة» و«الممارسة» الصوفيتين. ولكن لم يكتب لتلك التجربة أن تذهب بعيدا فقد توفيت ايزابيل ابرهارت وهي في السابعة والعشرين فقط من عمرها. لقد هلك جسدها أما «روحها فقد تسامت». هكذا يتم وصف رحلتها التصوفية.

نبذ الحضارة المادية
يعيد الكتاب أحد الأسباب العميقة للتوجه «التصوفي» لدى ايزابيل ابرهارت إلى رغبتها في نبذ الحضارة الغربية «المادية» ذات «الطابع الاستعماري»، لاسيما أنه كان قد زاد في غربتها واقع أنها لم تعرف أباها أبدا. هكذا قررت الذهاب لاكتشاف أهل الجنوب الذين سيصبحون بعد ذلك أبطال كتاباتها. وعبر هذا الاكتشاف، اكتشفت أيضاً «الثقافة والمعتقد الإسلاميين».

المؤلفان في سطور
مؤلفا هذا الكتاب ماري اوديل دولاكور و جان رونيه هولو هما أخصائيان بسيرة حياة وأعمال ايزابيل ابرهارت. سبق لهما وأنجزا عدة كتب عنها من بينها: حب الجزائر و رمال . وقد أشرفا معا على إعادة نشر مجمل أعمال إيزابيل ابرهارت. كانا قد عملا طيلة عشرين عاما على اكتشاف خبايا سيرة حياة «بطلتهما».
الكتاب: الرحلة الصوفية لإيزابيل ابرهارت
تأليف: ماري اوديل دولاكور جان رونيه هولو
الناشر: جزويل لوسفيلد باريس 2008
الصفحات: 264 صفحة

قصة للكاتبة الرحالة إيزابيل إبرهاردت

الغريــــــمة

ترجمة : حسن دواس
في أحد الصباحات,توقفت الأمطار المشجية فجأة وأطلت الشمس في سماء صافية صراح, ذات زرقة بالغة, وقد اغتسلت من أبخرة الشتاء الباهتة.
في الحديقة المنزوية كانت شجرة الأرجوان الكبيرة تمد أذرعها الموسوقة بالأزهار الوردية الصينية.
إلى اليمين يمتد الانعطاف البادخ لروابي مصطفى وينأى في شفافية لامتناهية.
كانت هناك شذرات ذهبية على الواجهات البيضاء للفيلات.
هناك بعيدا تنبسط أجنحة الزوارق النابوليثانية الشاحبة على موج الخليج الهادئ.
تمر نسمات مفعمة بالرقة في الهواء الدافئ. تقشعر الأشياء فجأة فتستفيق في قلب المتشرد أوهام الانتظار, والاستقرار والسعادة.
ينعزل مع تلك التي أحبها قلبه في المنزل الصغير أين تمر الساعات بلا إحساس وفي وهن سائغ, وراء المشربية ذات الخشب المنحوت, وراء الستائر ذاوية الألوان.
في الجهة المقابلة كان الديكور الكبير للجزائر وهو يدعوهما إلى احتضار لذيذ.
لماذا الرحيل, لماذا البحث عن السعادة في مكان آخر , و المتشرد يعثر عليها هنا لا حد لها في ثـمر البرقوق المتغير للحبيبة أين يغوص بنظراته طويلا, طويلا إلى أن تسحق كآبة الشهوة القصوى روحيهما ؟
لماذا البحث عن فضاء حين تنفتح خلوتهما الضيقة على الآفاق الفسيحة, حين يحسا [أن الكون فيهما يختزل ؟
كان كل شيء عدا حبه يبتعد... يرتد إلى موجات تنأى.
يتخلى عن حلمه الداعي للفخر بالوحدة, يتنكر لديار الصدف والمخاطرة والطريق الصديقة, تلك الخليلة المستبدة, المنتشية بالشمس تلك التي طالما أخذها وأحبها.
استسلم المتشرد بقلب مضطرم ساعات وأياما لهدهدة إيقاعات النشوة التي كانت تخيل إليه أزلية.
كانت الحياة والأشياء تبدو في مخيلته جميلة, فكر أيضا أن وضعه الآن قد صار أحسن و قد غدا أكثر رقة في قوة سلامة جسمه المنكسر, وطاقة إرادته الذاوية.
...في الماضي, أيام المنفى وفي خضم السأم الساحق للمعيشة الحضرية في المدينة, كان قلب المتشرد يعتصر وجدا لذكريات فتنة المشهد الساحر للشمس على السهل الطليق.
والآن, وهو يفترش سريرا دافئا في شعاع من أشعة الشمس الذي يتسلل من النافذة المشرعة, يمكنه أن يستحضر وبصوت خافت جدا, في أذن الحبيبة رؤى وطن الأحلام, ممزوجة فقط بالكآبة المبهمة الرقيقة وكأنها عطر الأشياء الميتة.
لم يعد المتشرد يأسف على أي شيء. إنه لا يرغب إلا في تلك اللحظات السرمدية للذي كان.
أسدل الليل الدافئ ستائره على الحدائق. صمت يخيم, وتنهدة عميقة تصَّاعد, تنهدة البحر الذي ينام هناك في المنخفض السحيق تحت النجوم. تنهدة الأرض المفعمة بحرارة الحب.
نيران تتوهج كاللآلئ على قمم الروابي الغضة. أخرى تناثرت على الساحل كأنها حبات مسبحة ذهبية,وأخرى تشتعل كأنها عيون حائرة في مخمل ظل الأشجار الباسقة .
خرج المتشرد وحبيبته إلى الطريق المقفرة إلا منهما, وقد اشتبكت أيديهما وراحا يبتسمان في الليل.
لم يتكلما, ففي الصمت يتفاهمان أكثر.
وصعدا المنحدر الساحلي ببطء, بينما كان القمر ينبعث من بين أشجار الأوكاليبتوس على أولى تضاريس متيجة المنخفضة.
وجلسا على صخرة.
ينبعث بريق أزرق على الريف الليلي و تهتز أرياش البلشون الفضية على الأغصان الرطبة.
تفرس المتشرد في الطريق طويلا, الطريق الفسيحة البيضاء المسافرة بعيدا, في المدى.
طريق الجنوب
واهتز عالم من الذكريات في روح المتشرد التي استيقظت فجأة.
أغمض عينيه ليطرد تلك الرؤى وتشنجت يده في يد الحبيبة وهو يشدها
لكنه, رغما عنه, يفتح عينيه.
عشقه القديم للخليلة المستبدة المنتشية بالشمس يعاوده من جديد, كان لها بكل وجدانه.
وهو ينهض, ألقى نظرة طويلة على الطريق للمرة الأخيرة: لقد كان موعودا بها.
... دخلا ظل حديقتهما المفعم بالحياة وخلدا للنوم في صمت تحت شجرة الكافور الباسقة.
فوق رأسيهما كانت شجرة الأرجوان تمد اذرعها الموسوقة الملأى بأزهار وردية تبدو وكأنها بنفسجية, في الليل الأزرق.
ينظر المتشرد إلى حبيبته الجالسة قربه.
لم تعد سوى رؤيا ضبابية , مائعة وستنقشع في ضياء القمر.
كانت صورة الحبيبة باهته, بعيدا هناك بالكاد تنجلي. حينئذ أدرك المتشرد الذي لم يزل قلبه ينبض بحبها أنه سيرحل في الفجر, وانقبض قلبه.
أمسك زهرة كبيرة من الكافور العاطر وقبلها كي يخفي شهقة.
وراء الخط الأسود للأفق, كانت الشمس الحمراء قد تلوثت في بحر من الدم.
وبسرعة انطفأ النهار, وغرقت الصحراء الصخرية في شفافية سوداء.
واشتعلت بعض النيران في ركن من السهل .
بدو رحالة مسلحون بالبنادق يهزون ستائرهم الطويلة البيضاء حول اللهب المضيء.
يطلق حصان مشكول صهيله.
رجل يجلس القرفصاء, رأسه إلى الوراء مغمض العينين كما في حلم يدندن أغنية شعبية قديمة كئيبة أين تتناوب كلمة حب مع كلمة موت.
ثم صمت كل شيء في المدى الشاسع الأخرس.
نائما كان المتشرد, قرب نار نصف مطفأة وقد تسربل ببرنوسه.
متكأ برأسه على ذراعه, منهك القوى, استسلم إلى السكينة اللامتناهية في أن ينام وحيدا مجهولا بين أناس بسطاء وأجلاف, مجهولا حتى من الأرض, الأرض الطيبة المهدهدة, في مكان مجهول من الصحراء وحيث لا يعود أبدا.


النص الأصلي



La Rivale
Par: Isabelle Eberhardt

Un matin, les pluies lugubres cessèrent et le soleil se leva dans un ciel pur, lavé des vapeurs ternes de l'hiver, d'un bleu profond.
Dans le jardin discret, le grand arbre de Judée tendit ses bras chargés de fleurs en porcelaine rose.
Vers la droite, la courbe voluptueuse des collines de Mustapha s'étendit et s'éloigna en des transparences infinies.
Il y eut des paillettes d'or sur les façades blanches des villas.
Au loin, les ailes pâles des barques napolitaines s'éployèrent sur la moire du golfe tranquille. Des souffles de caresse passèrent dans l'air tiède. Les choses frissonnèrent. Alors l'illusion d'attendre, de se fixer, et d'être heureux, se réveilla dans le cœur du vagabond.
Il s'isola, avec celle qu'il aimait, dans la petite maison laiteuse où les heures coulaient, insensibles, délicieusement alanguies, derrière le moucharabié de bois sculpté, derrière les rideaux aux teintes fanées.
En face, c'était le grand décor d'Alger qui les conviait à une agonie douce.
Pourquoi s'en aller, pourquoi chercher ailleurs le bonheur, puisque le vagabond le trouvait là, inexprimable, au fond des prunelles changeantes de l'aimée, où il plongeait ses regards, longtemps, longtemps, jusqu'à ce que l'angoisse indicible de la volupté broyât leurs deux êtres?
Pourquoi chercher l'espace, quand leur retraite étroite s'ouvrait sur l'horizon immense, quand ils sentaient l'univers se résumer en eux-mêmes?
Tout ce qui n'était pas son amour s'écarta du vagabond, recula en des lointains vagues.
Il renonça à son rêve de fière solitude. Il renia la joie des logis de hasard et la route amie, la maîtresse tyrannique, ivre de soleil, qui l'avait pris et qu'il avait adorée.
Le vagabond au cœur ardent se laissa bercer, pendant des heures et des jours, au rythme du bonheur qui lui sembla éternel.
La vie et les choses lui parurent belles. Il pensa aussi qu'il était devenu meilleur, car, dans la force trop brutalement saine de son corps brisé, et la trop orgueilleuse énergie de son vouloir alangui, il était plus doux.
...Jadis, aux jours d'exil, dans l'écrasant ennui de la vie sédentaire à la ville, le cœur du vagabond se serrait douloureusement au souvenir des féeries du soleil sur la plaine libre.
Maintenant, couché sur un lit tiède, dans un rayon de soleil qui entrait par la fenêtre ouverte, il pouvait évoquer tout bas, à l'oreille de l'aimée, les visions du pays de rêve, avec la seule mélancolie très douce qui est comme le parfum des choses mortes.
Le vagabond ne regrettait plus rien. Il ne désirait que l'infinie durée de ce qui était.
La nuit chaude tomba sur les jardins. Un silence régna, où seul montait un soupir immense, soupir de la mer qui dormait, tout en bas, sous les étoiles, soupir de la terre en chaleur d'amour.
Comme des joyaux, des feux brillèrent sur la croupe molle des collines. D'autres s'égrenèrent en chapelets d'or le long de la côte; d'autres s'allumèrent, comme des yeux incertains, dans le velours d'ombre des grands arbres.
Le vagabond et son aimée sortirent sur la route, où personne ne passait. Ils se tenaient par la main et ils souriaient dans la nuit.
Ils ne parlèrent pas, car ils se comprenaient mieux en silence.
Lentement, ils remontèrent les pentes du Sahel, tandis que la lune tardive émergeait des bois d'eucalyptus, sur les premières ondulations basses de la Mitidja.
Ils s'assirent sur une pierre.
Une lueur bleue coula sur la campagne nocturne et des aigrettes d'argent tremblèrent sur les branches humides.
Longtemps, le vagabond regarda la route, la route large et blanche qui s'en allait au loin.
C'était la route du Sud.
Dans l'âme soudain réveillée du vagabond, un monde de souvenirs s'agitait.
Il ferma les yeux pour chasser ces visions. Il crispa sa main sur celle de l'aimée.
Mais, malgré lui, il rouvrit les yeux.
Son désir ancien de la vieille maîtresse tyrannique, ivre de soleil, le reprenait.
De nouveau, il était à elle, de toutes les fibres de son être.
Une dernière fois, en se levant, il jeta un long regard à la route: il s'était promis à elle.
... Ils rentrèrent dans l'ombre vivante de leur jardin et ils se couchèrent en silence sous un grand camphrier.
Au-dessus de leurs têtes, I'arbre de Judée étendit ses bras chargés de fleurs roses qui semblaient violettes, dans la nuit bleue.
Le vagabond regarda son aimée, près de lui.
Elle n'était plus qu'une vision vaporeuse, inconsistante, qui allait se dissiper dans la clarté lunaire.
L'image de l'aimée était vague, à peine distincte, très lointaine. Alors, le vagabond, qui l'aimait toujours, comprit qu'il allait partir à l'aube, et son cœur se serra.
Il prit l'une des grandes fleurs en chair du camphrier odorant et la baisa pour y étouffer un sanglot.
Le grand soleil rouge s'était abîmé dans un océan de sang, derrière la ligne noire de l'horizon.
Très vite, le jour s'éteignit, et le désert de pierre se noya en des transparences froides.
En un coin de la plaine, quelques feux s'allumèrent.
Des nomades armés de fusils agitèrent leurs longues draperies blanches autour des flammes claires.
Un cheval entravé hennit.
Un homme accroupi à terre, la tête renversée, les yeux clos, comme en rêve, chanta une cantilène ancienne où le mot amour alternait avec le mot mort...
Puis, tout se tut, dans l'immensité muette.
Près d'un feu à demi éteint, le vagabond était couché, roulé dans son burnous.
La tête appuyée sur son bras replié, les membres las, il s'abandonnait à la douceur infinie de s'endormir seul, inconnu parmi des hommes simples et rudes, à même la terre, la bonne terre berceuse, en un coin de désert qui n'avait pas de nom et où il ne reviendrait jamais.


ضريح إيزابيل ايبرهاردت يتحوّل إلى مرتع للكلاب الضالة


فرنسا واستراليا أنتجتا حولها أفلاما وسويسرا سمّت عليها أحد أرقى شوارعها
ضريح إيزابيل ايبرهاردت يتحوّل إلى مرتع للكلاب الضالة

صار ضريح الكاتبة المعروفة إيزابيل ايبرهاردت،الواقع بمقبرة ''سيدي بوجمعة ''بعين الصفراء، يشهد حالة متردية، بسبب تهاوي الأسوار الخارجية للمقبرة مما ساهم في تحويلها إلى مرتع للكلاب الضالة ليلا، مع تسجيل، خلال السنوات القليلة الماضية، محاولات نبش واستباحة حرمة الضريح. بوصولنا إلى مقبرة ''سيدي بوجمعة التي تحمل اسم الوالي الصالح لعين الصفراء والواقعة على ضفة الوادي، خيّل إلينا انه سيصعب تحديد موقع ضريح إيزابيل ايبرهاردت (1877ـ 1904) أو ''قبر الرومية'' كما ينعته الأهالي. لكن، ما هي إلا لحظات حتى أدركنا وجهتنا وبأقل عناء. فضريح الراحلة يُعد العلامة المميزة في تلك المقبرة الصامتة سوى من صفير الريح؛ حيث نجده منتصبا على الجهة الغربية، منفصلا عن بقية القبور الأخرى، محاطا بأعشاب صحراوية، مبنيا بالصخر الأملس، مع شاهدين يعلوان بحوالي متر وعشرين سنتيمتر عن القاعدة التي تعلو بنصف متر، عن سطح الأرض، وبطول متر وستين سنتيمتر وعرض يبلغ حوالي المتر، أين كُتب باللغتين العربية والفرنسية:''السيد محمود. إيزابيل ايبرهاردت، زوجة سليمان اهني، المتوفاة عن عمر يناهز 27 سنة، جراء كارثة عين الصفراء الواقعة في 21 أكتوبر ''1904؛ حيث عُرفت الراحلة سنوات طوالا باسمها المستعار ''محمود السعدي'' وهندامها الذكوري بغية إخفاء هويتها وعدم إثارة فضول أهل الصحراء. كما أن المصادر التاريخية تؤكد أن صاحبة ''تحت ظل الإسلام الدافئ'' قد لاقت حتفها على اثر الفيضان الذي اجتاح عين الصفراء شهر أكتوبر عام 1904 حيث منعتها إصابتها بحمى الملاريا آنذاك من الفرار، لتنتقل إلى الرفيق الأعلى، بمعية 5 أفراد من الأهالي و6 أوروبيين آخرين ليتم دفنها وفق التقاليد الإسلامية. يذكر السيد ب.خيري، كاتب وباحث من المنطقة، أن معاينة شكل ضريح ايبرهاردت تكشف عن مفارقة تتمثل في حقيقة دفنها على أساس كونها رجلا وليس امرأة، لأنه، عادة، كلما تعلق الأمر بدفن امرأة فان احد الشاهدين يتخذ شكلا مخالفا للآخر. أما في حالة إيزابيل، فإن الشاهدين يتخذان نفس الوضعية وهي نفس حالة دفن الرجل.

ومع أن مقبرة ''سيدي بوجمعة'' تُعد أكبر مقابر المسلمين في عين الصفراء إلا أنها لا تكاد تحظ بأدنى اهتمام من طرف السلطات المحلية، حيث تحوّل المكان، بسبب تهاوي الأسوار الخارجية، وغياب مكلف بالحراسة،، إلى مرتع للانحراف؛ حيث يسهل علينا، من خلال أول زيارة، ملاحظة زجاجات النبيذ مرمية هنا وهناك، والتي تمنح المكان كآبة؛ حيث تحوّل أيضا إلى ملجأ للكلاب الضالة التي صارت تتسبّب في كثير من عملية النبش والحفر. هذا ما أثار ولا يزال يثير استياء الجيران الذين عبروا عن تذمرهم إزاء استباحة حرمات الأموات، مؤكدين على يأسهم من تكرار المراسلات الموّجهة لمديرية الشؤون الدينية بالولاية ورئاسة المجلس الشعبي البلدي الذي يؤكد، على لسان أحد نوابه، انه يجد نفسه عاجزا عن القيام بأية مبادرة؛ حيث لم يقم سوى بإنجاز معاينة وتحديد ما قيمته أكثر من 50 مليون سنتيم بغية ترميم المقبرة، منتظرا تلقي موافقة ديوان الولاية. يؤكد السيد ب. بلعرج، الباحث في تاريخ المدينة، أن ضريح إيزابيل ايبرهاردت تعرض، قبل سنوات إلى عملية نبش، من جهة الرأس، حيث يُرجح، من خلال معاينة طريقة النبش وملاحظة أثار استخدام الرفش تورط اليد الإنسانية. ولولا مسارعة بعض الغيورين على الحفاظ على ذاكرة المدينة، خلال الصباح الباكر، في ردم الحفرة، ثم إخطار مصالح الأمن بالقضية، لصار الضريح، في خبر كان.
ويذكر أن مجموعة مثقفين من المدينة بادرت أيضا، منذ ست سنوات، إلى جمع عدد من التوقيعات ومطالبة السلطات المحلية بوضع، على الأقل، سياج واق وحماية الضريح من عوامل التعرية الطبيعية، حيث يتضح بشكل جلي بداية تآكل حجر الشاهدين، إلا أنها لم تتلق ردا شاف. ويُرجح ب.بلعرج، سبب الاعتداء على حرمة الضريح إلى حقيقة تجذر كثير من الأباطيل حول حياة صاحبة ''في بلاد الرمال''، حيث تكشف شهادات بعض الشباب الذين صادفناهم بمقاهي عين الصفراء عن ترسخ فرضيتي إيزابيل ايبرهاردت ''السكيرة'' و''العميلة لصالح المخابرات الاستعمارية''، بحسب المتحدث نفسه دائما، وفقا لإحدى الشهادات التي استقاها على لسان جدته التي عايشت الكاتبة، فإن إيزابيل، مباشرة بعد اعتناقها الإسلام، نهاية القرن التاسع عشر، تخلت عن شرب الخمر، ولم تكن تتعاطى سوى محلول مستخلص من نبات الشيح شائع الاستهلاك آنذاك، بين أوساط الجنود الفرنسيين، لما يحتويه من سعرات حرارية إضافية. أما عن مسألة تورط الكاتبة في العمل لصالح الاستخبارات الاستعمارية والتي يؤيدها الباحث والروائي وابن المنطقة بن عمارة، مستندا على العلاقات التي كانت تربط بين الكاتبة الرحالة والماريشال ليوتيه، قائد الحملة العسكرية الاستعمارية ضد الجنوب الغربي من الجزائر والقائدين العسكريين ليتورد وكوفييه، فان الباحث محمد رشد ينفي هذه الفرضية، داعما رأي الباحثة الفرنسية شارل روا، صاحبة أهم ثلاثية بيوغرافية حول ايبرهاردت، التي تعزو سبب توسع دائرة شائعة تورط إيزابيل مع المخابرات الاستعمارية إلى أطروحة المؤرخة الإنجليزية ماك وورث، التي حملت عنوان ''مصير إيزابيل ايبرهاردت''، الصادرة عام 1975 بنيويورك والتي تضمنت جملة من المغالطات، حيث لم تتوان المؤرخة الإنجليزية على تشبيه الكاتبة بلورانس العرب من زاوية خدمة المصالح الاستعمارية الغربية. ويستشهد محمد رشد في دفاعه عن نزاهة إيزابيل بمحتوى إحدى الرسائل، الموّقعة عام ,1897 الموّجهة إلى صديقها التونسي، علي عبد الوهاب، الذي كان يُعد احد المقربين في حياة الكاتبة أين نقرا: ''أخبرك أن المسلمين استقبلوني بحفاوة وكرم كبيرين. لم تعد تربطني اليوم أدني علاقة لا بفرنسي ولا فرنسية ''. كما أن دائرة الإشاعات الشاذة السائدة حول الكاتبة والمتصوّفة، والتي تُروّج لها أطراف تُحسب على فئة ''الوطنيين''، تستند أيضا إلى النظرة المزدرية إزاء أصل منشأ الكاتبة، التي تُجهل هوية والدها، فلقب ''ايبرهاردت'' هو لقب والدتها ''ناتالي''. وتعترف الكاتبة نفسها، عبر إحدى رسالتها الموّقعة عام ,1898 الموّجهة إلى علي عبد الوهاب، قائلة: '' أنا ثمرة بائسة لرحم أمي التي اغتصبها طبيبها المُعالج''.
رغم المسار الواضح والذي تتّفق حوله عديد المصادر، في دفاعها عن المسلمين ومواظبتها على نشر قيم التسامح التي تلقتها على يد الشيخ الهاشمي، غوث الزاوية القادرية بورفلة، إلا أن المخيال الشعبي لا يزال يصر على تداول الجانب ''السلبي'' من حياة ايبرهارت. يضيف ب. بوداود انه كان ينتظر، سنة ,1999 تنظيم ملتقى وطني أول حول حياة وأعمال إيزابيل ايبرهاردت، بعين الصفراء، بمبادرة من المجلس الإسلامي الأعلى. ولكن، بعد اتخاذ مختلف الترتيبات، تم إلغاء التظاهرة، بدءا بإلغاء الرحلة الجوية بين الجزائر وبشار والتي كان يُفترض أن تحمل على متنها جملة من الباحثين الفرنسيين والسويسريين في آخر لحظة، بعد تلقي ديوان ولاية النعامة مراسلة اعتراض من طرف مجموعة من قدامي جيش التحرير.
حجّاج إيزابيل ايبرهاردت لا يزالون أوفياء

يؤكد ب. عميّر، كاتب ومترجم، انه رغم إهمال سكّان عين الصفراء والسلطات المحلية لذاكرة الرحالة، إلا أن ضريح هذه الأخيرة لا يزال يشهد سنويا زيارات متواصلة، يحج إليه عديد الأكاديميين الأوروبيين عموما والفرنسيين خصوصا. ويُعد فصل الربيع، أين تشهد درجات الحرارة اعتدالا نسبيا، أفضل الفترات لزيارات الأوروبيين، الذين يأتون غالبا ضمن زيارات منظمة للضريح والذين يمثلون اليوم القلة القليلة الباقية المساهمة في تحريك عجلة السياحة في المدينة وبعث الروح في فندق ''المكثر'' أهم فنادق عين الصفراء. هذه الملاحظة التي تشير بحق إلى المكانة المميزة التي لا تزال تحتلها إيزابيل ايبرهاردت في حقل اهتمامات الكتّاب والمؤرخين الأوروبيين؛ حيث تفيد المصادر الموثقة انه تم، لحد الساعة، إنجاز ثلاثة أفلام حول ايبرهاردت، يُعد أشهرها الفيلم الفرانكو-استرالي الذي يحمل اسمها للمخرج يان يرنغل وبطولة كل من ماتيلدا ماي وبيتر اوتول، إضافة إلى فيلم ''ترحال'' للمخرج الجزائري جعفر الدمرجي وبطولة الألمانية كورين هارفوتش وأخيرا الفيلم الفرانكو-جزائري ''حمى التيه'' للمخرج علي عقيقة. أما على الصعيد الدراسات الأكاديمية، فيكفي التذكير انه صدر ما لا يقل عن اثني عشر كتابا بيوغرافيا حول ايزابيل ايبرهاردت وتمت ترجمة أعمالها إلى ثماني لغات في دول أوروبية مختلفة. كما وجب التذكير أن الحي أين ولدت عام 1877 بجنيف في سويسرا، الذي يعد احد أهم الأحياء نظرا إلى طابعه التجاري والنابض بالنشاط، والواقع بين مدرسة المهندسين بجنيف وحديقة كروبيت، لا يزال يحمل اسم الكاتبة.


مبعوث الخبر إلى عين الصفراء: سعيد خطيبي


Blogspot Templates by Isnaini Dot Com and Wedding Bands. Powered by Blogger